ستّ قصص – معن أبو طالب


نشرت "حيث كنت واقفاً" في صحيفة القدس العربي. نشرت "لم نكن جائعيـن" و” كل الأشياء” و"غرفة" و"وحدة عداء المسافات الطويلة" في جدلية. نشرت "أبو علي الضبع" في قديتا. القصص مرتبة أدناه حسب تاريخ النشر.



لم نكن جائعيـن


لم نكن جائعيـن تلك الليلة، عندما دخل أبي إلى حجرتنا المعتمة وقال لأمي: قتلته. من هو، لم نعرف، لماذا؟ لم نعرف أيضاً. كل ما أعرفه أنني في تلك اللحظة شعرت بحُب لأبي لم أشعر به من قبل. في تلك اللحظة، وأنا أنظر إليه، عروقه النافرة، صوته الرصيـن، ثيابه الملطخة بالدم.

أذكر أن أمي، وبعد أن تحركت عيناها حركات صغيرة جعلت وجهها يتسع للذعر والبؤس والأمل، بعد لحظات من الصمت، نَظَرت إلى أخي الكبير واستمرت بالنظر إليه. بدأ أخي الصغير بالبكاء. كان بكاءً يختلف عن بكائه المعتاد. طلب أبي من أمي أن تُحـضّـر له ملابس نظيفة، مع أنه لم يملك إلا القميص الذي كان يرتديه وبنطاليـن. سمعت مرة أن أحدهما هدية من أخوه الذي لم أره قط. جلس أبي في الكرسي الوحيد في الغرفة يدخن سيجارة طويلة رفيعة لم أر مثلها من قبل. لم ينظر إلينا. أخذت عيناه تتفحصان تفاصيل الغرفة وتدرسان مقتنياتها. في العادة يتملكني الرعب عندما يفعل هذا لأنه سرعان ما يجد ما يستوجب الصفع أو الركل أو الشتيمة. ولكن كان هناك شيء مختلف في نظرته تلك الليلة. كان فيها هدوء وسلام لم أعهدهما من قبل. هدوء لم أعرف أنه كان موجوداً، ونهائية حاسمة أحسسنا بها جميعاً، سوى ربما أخي الصغير. ابتداءً من الليلة، سيتغير كل شيء. أبي لن يكون موجوداً. لن يكون جزءاً من حياتنا. هو شخص ترمّج لخانة الذكريات.

كان الصمت في الحجرة مُطبقاً وبدا كأن كل حركة يقوم بها أحدنا لن تُنسى أبداً. كأن هناك كتاباً تُسجّل فيه أدق حركاتنا. فركة عيـن، تغيير من وضعية الجلوس، حكة ساق. كلها حركات بدت وكأنها لا تليق بوقع اللحظات الثقيلة هذه. كأن فيها خرقاً لوقف للوقت تكالبنا كلنا على تطبيقه. كنت دوماً أسمع من أمي أن الحجرة صغيرة وأعتقد أنني الآن أفهم ما تعني. كنا كلنا جالسيـن نسمع أمي تتحرك وراءنا وهي تضع أشياء لم أعرف ما هي في خرخشة كيس بلاستيكي. ربما وضعت بعض المجلات التي كان والدي يخبئها ولا يسمح لأحد بلمسها. لم يصدر أي صوت سوى أصوات أشياء. في الخارج كان هناك شخصان يتجادلان ولكني أشك أن أحدهما سيضرب الآخر. عندي مدرسة غداً صباحاً. على الأغلب أن أمي ستنبه علي كالعادة أن لا أذكر ما يحدث الليلة. وأنني سأمتثل لأوامرها وسأحمي خصوصية العائلة بشراسة. حتى صديقي لا أطلعه على أصغر تفاصيل حياتنا. كثير ما أُسأل من أناس أعرفهم ولا أعرفهم: شو بيشتغل أبوك؟ وأرد: أعمال حرة. أحياناً تأتيني ابتسامة لا تعجبني، وفي أغلب الأحيان، لا يكون هناك تعليق. أحياناً يكون الأمر أكثر تعقيداً: ليش عينك زرقاء؟ ميـن ضربك؟ وعندها أردد، تماماً كما علمتني أمي - متناسياً كل مرةٍ الثغرات الواضحة في ردي - وأقول: وقعت عن البسكليت. أحيانا يأتيني الرد "بس إنت فيش عندك بسكليت". ولكن قلما يحدث هذا (أستوعب الآن أن التناقض كان واضحاً جداً ليتم الإصرار عليه). عندما يحدث ذلك فأنا أحياناً أختار الصمت والسير بعيداً، وأحيانا يتملكني شيء لا أفهمه وأنهال ضرباً على الشخص الذي يكون أمامي. أخي الكبير غالباً ما يأتي للدفاع عني وتمر الأمور على خير. نحن صحيح لسنا من عائلة كبيرة أو غنية، ولكننا اشتهرنا بشراستنا، ولذا يتردد الأولاد بالتطاول علينا. "مجانيـن" كانوا يقولون عن أخي وعني. كنا فعلاً مجانيـن. أذكر أن ولداً شتم أبي مرة وأني مسكته من رقبته. ضغطت على رقبته بذراعي وأحكمت القبضة. لم أكن غاضباً. كان هو في ألم شديد ولكني لم أكترث. اجتمع الأولاد حولنا في دائرة وطلب بعضهم مني أن أتركه. ولكن أحداً لم يقترب. استمريت هكذا ولم أتركه حتى لبى أوامري. أمرته أن يتكلم كبنت صغيرة، وأن يرجوني أن أتركه. عندما تركته كان يبكي بكاء فيه غل. لم يأت إلى المدرسة لمدة أسبوع بعدها. من يومها وحتى الآن والكل يناديه "سوسن". كان ينتابني شعور لا أفهمه عندما يسيء أحد إلينا. أرى كل شيء كبياض ساطع وحركات بطيئة. أتحول لحيوان صغير شرس لا يفهم حجماً أو عمراً أو مكانة. كنت أنقض على من يسيء لي ولا أتركه إلا باكياً مُدمّى.

في أحد الأيام سألني أحد الأولاد عن أمي، قال لي من وين أمك بتجيبلكو أكل؟ عندما عدت إلى البيت ذكر لأمي ما حدث. صفعتني أمي وقالت لي ببطء وبصمت قصير بيـن كل كلمة وأخرى كأنها كلمات لا تكوّن جملة: بكرة ... بالفرصة  ... بتلاقي ... هذا الولد ... وبتضربه. ثم أضافت: أو لا ترجع عالبيت.

خلع أبي قميصه وأعطاه لأمي. كان جسده قوياً صلباً وكان فيه آثار قديمة لإصابات لا أستطيع أن أتصور كيف حدثت. علامات على ظهره كنت أراها دوماً ولكني لم أجرؤ أبداً على السؤال عنها. عالم أبي قاس وموحش ولا مكان فيه للكلمات الزائدة. هو عالم الرجال. الرجال الذين لا يكترثون. أعادت أمي القميص إلى أبي حيث تحولت بقع الدم إلى بقع من الماء والصابون. لبس أبي قميصه دون أن ينهض عن الكرسي. لبسه وهو مبلل ولم يبدُ أن ذلك أزعجه. أنا أكره أن تكون ملابسي مبللة. خصوصاً إذا كانت جواربي. أحياناً، عندما تعطيني أمي جواربي في الصباح، تكون الجوارب رطبة، لأن أمي غسلتها في الليلة السابقة بينما أنا نائم. أخرج من البيت في غاية الضيق. ما أفعله هو أنني أخلع جواربي عندما أترك شارعنا. أخلعها وأضعها تحت الشمس. يطول الأمر أحياناً. وأحيانا يراني الميكانيكي في آخر الشارع ويقول لي: جيبهن. وآخذ له الجوارب - عندها أضطر لارتداء حذائي دون جوارب وهذا يزعجني أكثر - ويضعها لي على صفيح كبير من الحديد الساخن. تجف الجوارب في لحـظات. وعندما ألبسها تكون جافة ساخنة ويكون الأمر لذيذاً. أخي الكبير لا يكترث لهذا ويستمر في طريقه إلى المدرسة، ولكنه لا يقول لأمي أنني أخلع جواربي وأجففها. أمي عادت تفعل شيئاً ما في ركن الحجرة.

ما زال أبي يجلس في كرسيه ولكنه الآن يتأبط كيساً بلاسيتيكياً. كُلّنا جالسون وأمي واقفة، يداها تحت صدرها وفوق بطنها. جميلة أمي. جميلة وأنيقة رغماً عن أنف العالم. وقفتها في تلك اللحظة كأنها وقفة تنتظر رحيل ضيف بعد أن شرب قهوته. أو كأن فيها رجاء لتفسير. أو كأن فيها إيحاء لبدء حدث ما. أخي الكبير كان ذكياً وكان دوماً يعرف ما يجب فعله. أنا الآن أراه يتحرك في مكانه. كأنه ضاق ذرعاً بأمر ما أو كأن أحداً قد تطاول عليه ولم يعد يطيق صبراً. أبي جالس لا يتحرك. في وقت كهذا عادة ما تمده أمي بالشاي. ولكن أمي واقفة لا تتزحزح. اعتدل أخي في جلسته وشدّ ظهره وثنى ركبته بحيث وصلت أمام صدره وتحت وجهه. هي جلسة لم أعتدها منه. أبي ما زال جالساً صامتاً. أخي الصغير لم يعد يبكي. “ياللا يابا" قال أخي الكبير.

التفت أبي حوله ببطء وكأنه لم يعرف من أين أتى الصوت، وكأنه لا يعرف الصوت أصلاً. نحن قلما تكلمنا إلى أبي وليس بعيداً أنه لم يألف أصواتنا. ولكن كلمات أخي جاءت واضحة: ياللا يابا. عندما أتذكر تلك اللحظات الآن تسري رعشة في بدني. أنا أكيد أن الأمر باغت أبي، ولكن في ملامحه لم تكن لتقرأ شيئاً يشبه المفاجأة. كان يتصرف كأن كل ما يحدث حدث مئات المرات من قبل، أو أنه قد تم الاتفاق عليه مسبقاً بشكل ما، أو أن هذه هي مجرد الطبيعة الأزلية لحدوث الأشياء.

نهض أبي عن كرسيه ونظر حوله. نظر إلي وإلى أخي الصغير. نظر إلينا ولكنه لم يلاقي أعيننا. مشى نحو أخي الكبير ووقف أمامه للحظة، ثم صفعه. صفعات أبي قوية ثقيلة تتركك بطنيـن في الأذن وحرارة وخدر يتغلفان خدك وأذنك وأحياناً عينك. لم تتحرك أمي ولم يتحرك أخي بعد أن استعاد توازنه. سار أبي نحو الباب الحديدي. أغلقه وراءه بهدوء.

في تلك الليلة بكت أمي قليلاً، ولم نلعب أنا وأخي قبل نومنا ألعابنا المعتادة. في تلك الليلة نمت دون قلق. ولم يبكي أخي الصغير كثيراً. قبل أن ننام قالت أمي لأخي الكبير أن يأخذ الكرسي ويبيعه في السوق، وأن يعود إليها بثمنه حالاً. قالت لنا أننا لن نذهب إلى المدرسة في اليوم التالي. أننا سنأخذ إجازة لبضعة أيام. أننا سنذهب لزيارة أخوالي لبضعة أيام. قالت أنه يجب علينا أن نحميَ بعضنا، وأن نقول أن أبي على سفر.

لا أعرف لماذا شعرت بالحب لأبي في تلك الليلة. ناظـراً إلى الأمر الآن أعتقد أنني شعرت أن هذا رجل ظهر على حقيقته. أن تلك الحياة التي كان يحاول أن يقودها لم تكن له. نعم، في تلك الليلة أحببت ذلك الرجل المنتصر المهزوم. رجل لم يُخلق للحياة العائلية، ولكنه حاول بصدق. أحببته في تلك الليلة لأن شيئاً ما عرف فوراً في داخلي أنني لن أعاني أهواله وشياطينه بعد الآن، وأنه سيُترك وحيداً، على قارعة الطريق، يعانيها إلى الأبد.

أذكر أنني في اليوم التالي بحثت عن مجلات أبي، ولكني لم أجدها. أذكر أنني على مرّ السنيـن بدأت أفهم أن هناك هؤلاء الذين رأو من العالم بشاعة يستحيل إنقاذهم منها. أبي من هؤلاء. هي معهم في كل نَـفَـسٍ، في كل رمشة عيـن، في كل لقمة من طبقهم المفضل. بقاؤهم على قيد الحياة هو مجرد إطالة لبؤس لا يستحقه أحد. والحياة قربهم هي تذكير دائم أن البشاعة موجودة هنا، وهناك، وهناك. أنها قريبة، تختبئ في ثنايا الطريق.





الإمبراطور


"سوا أن الكلب موجود هنا والآن، بينما مفهومه موجود في كل مكان ولا مكان، موجود في كل زمان ولا زمان.”

ألكسندر كوجيف

حَرّ. ناس يتكلمون لغة غريبة ويعجّون شوارع أغرب. شوارع غير تلك التي اعتدت شكلها. يدي تقبض عليها يد أكبر. يد كانت مصدر كل الطمأنينة في العالم، حتى في تلك الشوراع الغريبة. بدأ حوار مع شخص مبتسم شكله غريب أيضاً. استمر الحوار لبعض الوقت، ثم نزلت اليدُ الأخرى من الجهة البعيدة عني وأعطتني شيئاً. كان ملمس الشيء خشناً وكان وزنه خفيفاً. لم يكن حاراً ولا بارداً، وكان يجب علي أن أمسكه بحيث يبقى متوازناً. عرفت أن الشيء للأكل. بعجلة، وضعت لساني على الشيء ووجدته بارداً جداً. بارداً ورائعاً. عندما وضعت أسناني عليه لم يخرج منه الكثير، ولكن ما خرج منه كان ثلجياً. كان يدخل فمي بارداً ثم أشعر بالثلج يتكسر على أسناني، ومن ثم ينطلق منه الطعم منتشراً في كل أنحاء فمي. بعدها يبدأ الشي بالذوبان على لساني. كان عليه ثلج، لا بل كان الثلج فيه. كان جزءاً منه. في المحاولة الثانية استخدمت لساني وأسناني، وعدلت من زاوية اقتراب فمي إليه. كانت المحاولة ناجحة وأخذت جزءاً أكبر من الشيء. هذا الشيء العظيم. هذا الشيء الذي قدمته لي تلك اليد الكبيرة المطَمئنة، في ذاك الشارع غريب الشكل، الذي كل ما أعرفه عنه هو أنه بعيد، بعيد كل البعد عن البيت. تحركت اليد الكبيرة، وتحركت معها، مستخدماً ما تعلمته لأبقي الشيء العظيم في مكانه بينما أسير في خطوات كبيرة لأواكب انطلاقة اليد.

كان هذا قبل أن تخونني اليد المطَمئنة، وتكشف لي عن وجهها الآخر. عن مقدرتها على الاختفاء، عن برودتها وجفائها، وعن قدرتها الهائلة في أن تهوي، دون أي تحذير، وبكل قوتها، على وجهي. لهذا السبب يا صديقي، فأنا آسف، ولكنني لا أستطيع قبول ما قدّمت. أنا لا أتناول إلا نكهة واحدة من البوظة. تلك البنية الغامقة. هي النكهة التي كانت ذاك اليوم. ذاك اليوم، عصراً أظنه كان. أو ظهراً. لا يهم. كان يوماً جميلاً. وفي كل مرة أتناول فيها البوظة، فأنا أكون أبحث فيها عن تلك النكهة. أريدها أن تكون مطابقة تماماً لتلك في ذاك اليوم. وإن لم تكن، ومهما كانت لذيذة، فإن أملي يخيب. ولحد الآن، فأنا للأسف، لم أجدها أبداً.

صدقني يا صديقي عندما أقول أني بحثت عنها. جربت المعلب والـطازج والغالي والرخيص. وضعت إعلانات في مجلات البوظة شارحاً المواصفات بالتفصيل الممل. ذهبت إلى مؤتمرات وحفلات تذوق. بحثت طويلاً. سافرت بلاداً وجبت أراض واسعة باحثاً عن تلك النكهة. ولكني لم أوفق أبداً. أعرف كيف أقول بوظة على نكهة شوكولاطة بثلاث وعشرين لغة. أكلت البوظة في عواصف ثلجية، في درجات حرارة سالبة، في قرى صغيرة في ريف الصيـن، وعلى قمم جبال عند قبائل أمريكا اللاتينية. بحثت في أوروبا وأمريكا ونيوزيلندة وإفريقيا. وجدت أقرب ما يكون إلى تلك النكهة في اليابان. ولكنها كانت ثلجية أكثر من للازم، والنكهة بحد ذاتها أضعف مما كانت عليه في ذاك اليوم. ذاك اليوم الذي لن أنساه ما حييت. مجرد لحسة واحدة، أعرف عندها فوراً أن مرامي خاب. أرميها وأنطلق متجهاً إلى مكان آخر أبحث فيه. لم أقم بواحدة من تلك الرحلات منذ سنتيـن. فلقد تقدمت في العمر كما ترى، كما أنني أنفقت كثيراً مما أملك في هذه الغاية. في المنزل أنا دائم الإطلاع على وصفات جديدة ومراجعات لما يتعلق بالبوظة، كما أن عندي عدة اشتراكات بمجلات ودوريات متخصصة في هذا الموضوع.

أمضي في هذا وقتاً كثيراً. أحياناً يمر باص البوظة بموسيقته العالية منادياً الأطفال. تجدني أركض إلى الشارع، سابقاً الأطفال في أكثر الأحيان. يرمقني الأطفال وأهلهم بنظرات ريبة. لا بل البائع نفسه يعاملني بجفاء. ولكنه يعرف الطلب. واحدة من كل نكهة شوكولاطة عنده. أحملها وأذهب، ويسعد الجميع بذهابي. لا يهم. المهم هو شيء واحد. أن أجد تلك النكهة، مجبولة بتلك الطريقة. أن يكون الثلج جزءاً من الشيء. في صميم الشيء. ليس مجرد قطع على السطح، أو بعض الثليجات في الأسفل. أصعب هذا جداً؟ أهو مستحيل؟ وها أنا الآن قد قاربت على الموت، وما زلت لم أجد تلك النكهة، ذاك الشيء.

في لندن اعتقدت أني سأجدها. ما أوقعني في غرام تلك المدينة، هو أنه لو كان هناك خمسة أشخاص في العالم أجمع، مهتمون بأمر مغمور وفي منتهى الغرابة، فستجد ثلاثة منهم في لندن، وعلى الأغلب أنهم سيكونوا قد نظموا نادياً أو جمعية بهذا الخصوص. اجتمعت بهواة البوظة هناك، لا بل وجدت ناديا مختصاً بعاشقي نكهتي بالذات، الشوكولاطة. كانت اجتماعاتنا أسبوعية، في حانة اسمها البطة والعجلة. كان يحضر الاجتماع عادة اثنا عشر أو ثلاثة عشر شخصاً. معظمهم في الأربعينات من عمرهم. نشرب البيرة ونتبادل القصص عن البوظة، وننظم رحلات لزيارة مكان جديد لجبْل البوظة في أوروبا أو في مدن بريطانيا الصغيرة. ولكنني سرعان ما استوعبت أن هوسهم يختلف عن هوسي. كنا عندما نصل إلى مكان جديد، ونتذوق ما عنده من نكهات بوظة، كانوا يستمتعون بها ويتذوقونها ببطء، ثم يحاولون وصف الطعم. "هذه فيها آثار لطعم البندق، كما أني أشعر بنغمات خفيفة للتفاح، وحليب كامل الدسم"، وآخر "أنا أحب هذه البوظة، فيها شيء غير اعتيادي، عندي شعور أن من صنعها أراد التحايل علينا، هذه شوكولاطة ولكنها ليست شوكولاطة، وأعتقد أن صانع هذه الخلطة نجح وتفوق علينا بمهارته". هذا بالنسبة لي كان هراءً. أنا كنت أبحث عن شيء محدد. كنت أتذوق البوظة، ثم أعرف فوراً ونهائياً أنها ليست ما أبحث عنه. أرميها دون أن أنهيها وأطلب النكهات الأخرى. في زيارة لجابِل بوظة في جنوب النمسا، كان جميع من في المجموعة ينهالُ بالمديح لما جربوه من بوظة، بينما جلست أنا صامتاً، فقد بقي هناك نكهة واحدة لم أجربها. كانوا قد اعتادوا على كوني الصامت المؤدب ولم يزعجهم وجودي. المهم، جربت النكهة الأخيرة، وكانت بعيدة كل البعد عما أبحث عنه. ما حصل عندها هو أنني وقفت في مكاني وضربت البوظة في الأرض. كنت أستشيط غضباً. نظرت في الجدار الأبيض المقابل إليَّ وقلت: “هذه أيضاً ليست هي". أصيب الجميع بالذهول، وصمتواً. تمالكت نفسي وحاولت أن أجلس في مكاني وأن أتابع السهرة كأن شيئاً لم يحصل، هم أيضاً حاولوا هذا. ولكن المحاولة لم تنجح. غادرت مبكراً وعدت إلى غرفتي في الفندق. طلبت ما لديهم من بوظة وجلست أشاهد التلفاز. عندما تركت الغرفة كانت هناك أربع علب مفتوحة في كل منها غَرفة ملعقة واحدة.

عندما عدنا إلى لندن حاولت أن أبقى عضواً في النادي، ولكن وصلتني رسالة تقول إن أعضاء النادي لا يشعرون أن اهتماماتنا واحدة، وأن "شغفي لبوظة الشوكولاطة هو من نوع آخر ولا يتماشى مع شغف المجموعة". لا أستطيع أن أنكر أنني شعرت بوحدة هائلة ذاك اليوم، وبشعور ثقيل، مرهق بأنني لن أجد أبداً ما أبحث عنه، ولكن أنني أيضاً، لن أتوقف أبداً عن البحث عنه. أنا لا أمر بفترات أتمنى فيها أن أتوقف عن بحثي هذا. هو ليس إدمانا كالتدخيـن أو الكحول مثلاً، تود أن تقلع عنه ولكنك تجد الأمر صعباً. لا. أبداً. هو أمر مصيري لا أملك ولا أريد الإقلاع عنه أبداً. سأبحث دون كلل أو ملل، سأبحث طالما سمحت لي صحتي بهذا، وبالقدر الذي تسمح لي به.

لقد أطلت عليك يا صاحبي ولا شك أنك مللت من هرائي. ولكن الموضوع فرض نفسه عندما قدمت لي هذه البوظة على نكهة الليمون، في هذا اليوم الحار الجميل. ولهذا وطمعاً في حسن ضيافتك وكرمك، فأطلب منك، إن تكرمت، وتفضلت، أن تذهب إلى البقالة، أو ترسل أحداً. لا بل أذهب أنا، لم لا أذهب أنا؟ أو نذهب أنا وأنت في كزدورة. هُم مجرد دقيقتيـن لا أكثر. من يعرف، ممكن أن نجدها هناك. هو احتمال بسيط، يؤول إلى الصفر، ولكنه موجود. والأمر يستحق التجربة.






غرفة

عندما دخل الغرفة ورآني كما أنا، عارياً، جاثماً فوق زوجته، لم يقل شيئاً. بل وقف، متسمراً، غير متأكداً مما يجب عليه فعله. لم يبد غاضباً، ولم تبد هي خائفة. أما أنا فقد كنت متيقظاً حذراً. أي شيء ممكن أن يحدث الآن. من الممكن أن يفقد أعصابه، بل من حقه أن يفقد أعصابه. لو كنت أنا في مكانه لقتلتني بيدي العاريتيـن. الأمور تكتسب وضوحاً في مواقف كهذه تفتقر لها الحياة اليومية. أنا في خطر. هي في خطر. هو مصدر الخطر. الحق والمخطى والمخطأ في حقه والذنب والأخلاق أمور لا مكان لها في هذه الغرفة. ما زال يقف هناك. ما زلت جاثماً فوق زوجته، أنظر ورائي ككلب يحاول رؤية ذيله. بدأت أشعر بها تنتفض تحتي. يداها على صدري تحاولان إبعادي عنها، ولكني جاثم. الوقت ما زال غير مناسب للحركة. هو المسيطر على الموقف الآن. كل الحركات تبدأ منه. الموسيقى ما زالت تصدح في الخلفية. أغنية لأسمهان أرغبها عند ممارسة الجنس. ترى هل يحب الأغنية هو أيضاً. هل مارسا الحب على هذه الأغنية في أوقات أسعد من حياتهما؟

(لقطتك يا عرص) كان ما قاله بعد فترة الصمت الطويلة تلك. لقطتك. وكأني أنا من خنته وليست زوجته. وكأن هناك رابطة أخوة ذكورية أبدية تعديت عليها أنا، وكأن زوجته معفية بحكم كونها امرأة. من ناحية أخرى، اختياره لكلمة عرص كان موفقاً. أنا فعلاً عرص. في هذا الموقف، على الأقل. ولا يمكن أن أنتهي إلى هذا الموقف لو لم أكن عرصاً لفترة زمنية معتبرة.

ابتعدت عن امرأته عندما أعلن بداية المراسم. ابتعدت هي للجهة الأخرى من الفراش. نظر إليها نظرة سريعة خالية من المشاعر. واضح أن الهدف الآن هو أنا. ما سأناله أنا من الممكن أن تناله هي أيضاً، ولكن الأمر الأكيد هو أن الأولوية لي.

كان أطول مني بعض الشيء، قوي البنية، ولكنه غير مخيف. يمكنني معالجته والهرب. هذا أمر أنا أكيد منه. واليقيـن ثميـن جداً في لحظات كهذه. لقد مررت بمواقف كهذه قبلاً. السرير والمقعد وطاولة التجمُّل هي كلها أمور أُحسن استخدامها عند الضرورة. ولكن ما حدث الآن لم يحدث قبلاً. لقد أدار ظهره وخرج. باب البيت انقفل بصوت عالٍ. طراخ. ممتاز، الأمر سيكون أسهل من ما توقعت. نظرت إليها وإلى عينيها المنفرجتيـن، اللتيـن على وشك القفز من وجهها، ولم تقل شيئاً. ما زالت على حافة السرير. الموسيقى ما زالت في الخلفية تصدح. هو مقطع أحبه. الطقس مشمس خارجاً، بطريقة تزعجني. الآن وقتي للهرب. هل أذهب للبيت أم لشرب القهوة؟ أين محفظتي؟ ماذا سيحصل لها لاحقاً؟ هل أتصل بالشرطة؟ ما اسم زوجها؟ ولكني سمعت الباب ينفتح مرة أخرى، وإذا به يمشى هادئاً إلى باب الغرفة مرة أخرى. إنه يحمل مسدساً الآن. لا بد أن المسدس كان في السيارة. هو من هذا النوع إذاً. النوع الذي يحمل مسدساً في السيارة. يشهره كل بضعة أشهر، لم يستعمله قط. ربما يشعره هذا بإنه مزيف. بغض النظر، الآن وقت استعماله. ما يقلقني أنه ما زال لا يبدو غاضباً. يقلقني لأني لا أفهمه. هي تفهمه، وهي ترتعد الآن. إنها تتوسل، وصوت أسمهان ما زال في الخلفية، لم يخطر ببال أحد أن يطفئ المسجل. إنها تقول له أنها آسفة، وأنها شعرت بالوحدة، وتدعوه أن لا يدمر حياته. وجهه خال من المشاعر. الرعب في عينيها مذهل. أم هو خوف؟ أرجو أن لا يكون خوفاً. الخوف يكون مما نعرفه، بينما الرعب يكون مما يستطيع إيذاءنا ولكننا لا نفهمه. إذا كانت لا تفهمه فهناك احتمال أن يفعل أي شيء، ممكنٌ أن يفجر رأسه، ممكن أن يغادر، ممكن أن ينهار باكياً، ممكن أن يضع المسدس جانباً وينهال علي ضرباً. ولكن إن كان هذا خوفاً، وهي تعرف تماماً مم هي خائفة، فالنهاية قادمة لا محالة. نظرة إلى الشباك. هو على بعد ٤ أمتار تقريباً، وبيني وبينه السرير. الخزانة لن تحميني. لم أواجه رجلاً غاضباً يحمل مسدساً من قبل. ليس هناك ما يمكن أن أقذفه به. إن قذفته بحذائي ربما أكسب ثانية أو ثلاث لوصول الشباك. أنا الآن أفترض أنه غبي. أو أنه سيتردد. أنا أيضاً أفترض أن الشباك مفتوح. من الواضح أن فرصي ضئيلة. أنظر إليها مرة أخرى. إنها تبكي، عيناها جميلتان، ربما الجمال يليـنُ قلبه. إنها ترجوه أن يضع المسدس جانباً "عشان نحكي". نعم، نعم “خلينا نحكي، بعرضك”. استعمال آخر كلمة لم يكن موفقاً. فلنحكِ يا صديقي. لنتكلم عن الموضوع. لنبحث شوؤن هذه العلاقات المتداخلة. فلننسَ لبعض الوقت أني دخيل، لنمثل أنني أستحق مكاني في هذا السرير، ولنتفاوض في مستقبل هذه العلاقة. ما زال متسمراً في مكانه. لم ينطق بأي حرف بعد كلمة عرص. هو ينظر إلي ولم ينظر لزوجته مرة واحدة. ليس عندهم أطفال، هذا ليس من مصلحتي.

أرفع الفرشة بقوة عجيبة وأضعها بطولها بيننا. أجرها على طرفها وأتحرك نحو النافذة. الشرشف ينجر على الأرض. لم يطلق النار.أنا لا أسمع ولا أرى شيئاً، ولكني أسمع وأرى كل شيء. ما زلت أسمع أسمهان، أنا أسمع الأطفال في الخارج ينادون مطالبيـن بالكرة، أنا أسمع صوت زاوية الفرشة يزحف على سجاد الأرضية، أنا أسمع شهقاتها. محاولتي تافهة ولكنها ضرورية. أصل إلى الشباك، يد ترفع الفرشة والأخرى تفاوض الشباك. الشباك مقفل. لا أعتقد أن مشاعري تجاه شباك كانت بهذه القوة من قبل. الشباك يصر على إقفاله. إنها تصرخ بي الآن لسبب ما. أصابعي ما زالت تتمسك بالفرشة، ولكنها تنزلق مني. الفرشة على الأرض، وأنا أواجه قاتلي مرة أخرى. ما زال وجهه خالياً من المشاعر، ولكن المسدس أصبح أمامه. ذراعه ممتدة نحوي. أشعر بصدمة هائلة في صدري، ثم أخرى. أنا على ركبي الآن، ما زلت أسمع أسمهان. كل شيء عال جداً. هناك شيء ما يصرخ في أذني. صوتٌ عالٍ وهائل ويحيط بي من كل الجهات. يقترب الصوت، ولا مجال للهرب.





وحدة عداء المسافات الطويلة

يبدو أنه سيحقق وقتاً جيداً اليوم. الميل الأول انتهى. ٥ دقائق. يعدو ويعدو ويعدو. تنطلق أفكاره. يفكر أنه فعلاً محظوظ ليتم اختياره للمشاركة بالسباق. يفكر أن صحته تتحسن، ونفسيته تتحسن. يفكر أن هذا كله لن يعني شيئاً بعد بضعة أشهر. ينظر مرة أخرى إلى الساعة. حان وقت الغيار الثاني. الغيار الثاني صار أسهل. أصبح أكثر قدرة على السيطرة على جسده. في البداية كان يشعر أن جسده عدوه. أنه في معركة دائمة معه. أن جسده يخذله في أي فرصة تسنح له. أما الآن فجسده قطع خط الحصار وأصبح حليفه. كأنهما رفيقان في تنظيم، يتعاونان ويساعدان بعضهما، لأن مصيرهما واحد وفائدتهما واحدة. وهكذا، العداء وجسده تابعا العدو. (ولكن مهلاً، في هذه الحالة بالذات، العداء وجسده لهما مصالح تقع في أمكنة مختلفة تماماً). أعلم، أعلم، ولكني أحاول أن أروي قصة. تمهل قليلاً.

إذن، العداء يركض. هو وحيد. يصغي لألحان أنفاسه فوق وقع أقدامه. قطرات العرق ترسم بقعة على صدره. حياته قبل هذه الفرصة لم تكن تمنحه الكثير. أما الآن فالمجد والشهرة أمامه. أن يعمل شيئاً أمامه. أن ينفس عن غضبه أمامه.

سرح باله وهو في الميل الثاني وأخذ يتخيل ملصقاً يحمل صورته على حائط غرفة مراهق. هو لا يرغب في هذا، ولكن إن كان النجاح حليفه فهو حاصل لا محالة. أي صورة سيستخدمون يا ترى؟ هو لا يذكر آخر مرة تصور فيها. ولكنهم حتماً سيجدون صورة. إنهم دوماً يفعلون. ترى هل تكون صورة من أيام الوجه المرهق الملئ بالبثور أم وجهه الآن؟ تقفز أمامه سيارة من شارع فرعي، يتفادها وتنقطع سلسلة أفكاره. هو الآن في الغيار الثاني، وقت أحد الغيارات العليا. يزيد من سرعته ويثبتها. يمر من أمام فتاة جميلة. ترمقه بنظرة وبقايا ابتسامة. هذا لم يحدث من قبل. يبتسم. تزداد سرعته دون أن يشعر.

يوم السباق سيكون حافلاً. مليئاً بالحركات الأخيرة. سيكون وزنه أثقل قليلاً مما هو الآن ولذا سيعاني وقته بعض الشيء. سيلبس رقماً وشعارات شركات تدعمه. سيتحول إلى لوحة إعلانات متنقلة متكلمة وغاضبة. تقول من أين يأتي الغضب؟ وهل يجب أن يأتي من مكان ما؟ ألا يولد الإنسان غاضباً؟ عذراً أنا أنحرف عن الموضوع. نعم. سيكون يوماً حافلاً وسيكون هناك العديد من المتسابقيـن. العداء عليه أن يكون ضمن الثلاثة الأوائل ليتأهل للسباق القومي وتتم دعوته إلى منصة التتويج حيث يصافحه وزير الشباب. ينظر إلى ساعته ويجدها تقول ٨ دقائق. يجب عليه أن ينهي تحت ٣١.٥ دقيقة يوم السباق. يجب عليه أن يتأهل. يجب عليه أن ينجح. يجب عليه أن يفوز. العديد يعولون عليه لذلك. ولكن أين هم هؤلاء؟ يمر من أمام مجموعة رجال يجلسون على باب مقهى. أحدهم يحمل بربيش الأرجيلة في يد وسيجارة في يد أخرى. يخيم الصمت عليهم وتتابعه نظراتهم. وجودهم يشعره بالسخف في ملابس الركض. الشورت قصير جداً وواسع بحيث يظهر ملابسه الداخلية، والبلوزة تظهر ما عنده من شعر على ظهره.

السباق ما زال بعيداً، حوالي ٤ أشهر. ٤ أشهر من ٢٤ عاماً. ٤ أشهر من ٢٨٨ شهراً. أصبحت نهاية الأشهر الأربعة ليست بذاك البعد. عشر دقائق ونصف. ترى هل سيظهر له أعضاء الإدارة أثناء تمارين التبريد عند انتهائه كما حصل الأسبوع السابق؟ أراد الإداريون أن يتأكدوا من عزمه وجديته. عدم ضعفه يوم السباق. جاوبهم بأن السباق أهم بكثير له مما هو لهم. من هم ليجرؤوا على التشكيك بقوة إرادته؟ على الأغلب أن الأوغاد قد استبقوا هذا من معرفتهم أنه كان بلا عمل طوال السنتيـن السابقتيـن. ولكن هؤلاء الأوغاد، والأوغاد الآتون من بعدهم، لا يعلمون القصة وراء القصة. هم فقط يحكمون. وكثرة الأوغاد هي كل المصداقية التي يحتاجون إليها.

يقترب من نهاية الميل الثالث. كل متسابق يحصل على دعم للسباق، ويتحول للوحة إعلان متحركة. بفضل تحركات رئيس مجلس الإدارة المذكور أعلاه وحنكته تم الحصول على دعم للعدّاء بمبلغ كبير من كاتر بيلار. شعار الشركة كبير وذو خط أسود عريض، وهو مثالي لتخبئة الحزام الناسف تحته. يقلل من سرعته ليوزع مجهوده. هدف العملية هو وزير الشباب. سيعتلي العداء المنصة ويقترب منه الوزير. على الأغلب سيكون في المركز الثالث ولذا سيكون أول من يتوج. سينحني ليتمكن الوزير من وضع الميدالية حول عنقه، وعندها سيقفز عليه العداء. سيضمه بأقصى ما يملك من قوة. يجب عليه أن يضمه كأنه يحبه حباً جماً. فحزامه الناسف صغير وانفجاره متواضع. أكثر ما يأمل له الفريق هو قتل الوزير، وإن ابتسم لهم الحظ، إصابات بليغة للرياضييـن على المنصة. وهكذا (وجواباً على سؤالك السابق) فكل رشاقة العداء التي يكتسبها هي هزيمة لذاتها. كل بناء عضلات ولياقة ومرونة لن يطيل عمره أو يحسن صحته، بل سيفتته لقطع صغيرة.

الطقس جميل اليوم ومناسب للركض. ينظر إلى شجرة زيتون عمرها مئات السنيـن ويشعر بالغيرة. لم تنزح الشجرة، ولم تغير لونها، ولم تتمزق جذورها. ولكنها بقيت وحيدة، فكل ما حولها اقتلع. يحافظ على سرعته متواضعة. لم تُركت الشجرة؟ ربما كشاهد على جريمة؟ أو لإرسال رسالة معينة؟ أم هي كانت فقط أكثر حظاً من أخواتها، أم أسوأ حظاً؟ يمسح المزيد من العرق عن جبينه. رباط الرأس امتلأ بالعرق وفاض. يفكر مبتسماً. هل سينزعج الوزير من عرق العداء على بدلته؟

بقي أمامه الميل الأخير. يركب الغيار الرابع وينطلق. يحس بالريح في شعره ويشعر بالنشوة. أي تحسيـن في الوقت له معنى يمكن تعزيزه الآن. ولكنه تَعب. الخطوات أصبحت أثقل والثواني تطول والنفس غير مشبع الآن. يثابر. يتذكر أن ما سيفرقه عن غيره يوم السباق هو احتمال الألم. وهذا لن يجد فيه منافسة جادة. يزيد من سرعته رغماً عن جسده. يتذكر قول أحدهم “الخيل الأصيلة بتشد بالآخر". “كس أختك أنت وأصالتك" أخذ يفكر. ما علاقته هو بالخيل، وكيف لا يكون الخيل أصيلاً؟ هل يكون أصيلاً بانتمائه للصحراء؟ إذا كان هذا صحيحاً، فلم تغلب عليه خيل الجبال والمروج الخضراء؟ بغض النظر، الخيول حيوانات غبية. ما زال يعدو سريعاً. وقته جيد.

ترى كيف يكون آخر يوم؟ كيف تكون آخر ليلة؟ آخر وجبة؟ أسيأخذ وقتاً أكثر وهو ينظف أسنانه لأنه يعلم أنها المرة الأخيرة؟ هل سيصغي لصوت أخيه الصغير بانتباه أكثر؟ ماذا عن آخر لقمة، وآخر رشفة قهوة؟ يمسح العرق عن وجهه. هل سيستيقظ باكراً ليرى آخر فجر؟ هل سيجلس في المرحاض ويتأمل تفاصيل في حمام بيته – الذي عاش فيه منذ ولد – لم يرها من قبل؟ وصل إلى نهاية مسافة السباق. أوقف الساعة، وتحول من الركض إلى المشي السريع. بعد دقيقتيـن بدأ تمارين التبريد. شد ساقه وانحنى ليلمس طرف حذائه، عدّ ١٥ ثانية ثم شدّ ساقه الأخرى. وقته اليوم ٢٩.٤٣ دقيقة. جيد جداً. هو أقوى وأسرع مما كان قبل شهرين ويحس بسيطرة تامة على جسده. يود أن يحقق وقتاً تحت الثماني وعشرين دقيقة يوماً ما. هذا أقل مما يحتاجه لتنفيذ العملية. ولكن لا يهم. هو يرغب بهذا لنفسه. نوع من التحدي الشخصي. والسباق على بُعد أشهر. ولذا، فهو سوف يحاول.





حيث كنت واقفاً

كنت قد تناولت الحليب والتفتُّ إلى البائع لأحاسب عندما رأيته يدخل البقالة. دفع ثمن باكيت سجائر وخرج، ولم يتذكرني.

الساعة الثالثة، يوم الأربعاء. خرجت من منزلي لأشتري كرتونة حليب. منذ أن سُرّحت من عملي الشهر الماضي لم أخرج من البيت إلا قليلاً. قطع الدور أمامى ودفع ثمن سجائره في غاية اللطف، بل جعل البائع ينفجر ضاحكاً بنكتة سريعة وانسحب بسلاسة. خرجت خلفه. ذهب إلى سيارته. فتح الباب ولكنه تراجع في آخر لحظة. يبدو أنه نسي شيئاً. عاد باتجاه البقالة. هذه هي فرصتي. إنه لا يراني. حتى لو رآني فلن يعرفني. حتى لو عرفني فلن يتذكر ذاك اليوم.

نحن الآن في الحجم نفسه. بدأت أمشي نحوه. تفكيري كان كالآتي: سأصدم كتفي بكتفه، كما يحدث يومياِ بيـن ملاييـن الناس في الشوارع المزدحمة، ولكن أقوى. الشارع خالٍِِ تماماً. سيلتفت إلي ويقول أمراً ما، "انتبه يا أخ" أو "ما تتطلع وين رايح". عندها سأنهال عليه ضرباً. ها هو، على بعد ١٠ أمتار. نحن نسير في اتجاه معاكس. يرد على الهاتف. ٥ أمتار، ٣ أمتار، مترين. متر.

فوجئ بعض الشئ. لم ينظر في عيني. اعتذر بأدب وسرعة رجل أعمال في طريقه إلى اجتماع، لا وقت لديه ليدقق في التفاصيل. نظرت إليه بشراسة. تابع سيره.

١٦ عاماً. كانت الفرصة الأولى وكنت أنا ألعب وحيداً في الساحة الخلفية. كنت أضرب حجارة ببعض لأرى كيف يتغير شكلها بعد كل اصطدام. التفتُّ لأراه هو ومجموعة من أولاد وبنات صفه. ضخمون وعريضون ووجوههم مليئة بالبثور. لم يقل شيئاً، بل سار نحوي مبتسماً. عدت إلى لعبتي. فجأة وجدت نفسي على الأرض. هممت بالنهوض، وما إن بدأت ركبي بالانفراد حتى جاءتني دفعة أخرى وعدت هاوياً إلى الأرض. دفعة أخرى. حاولت أن أقف، دفعة أخرى. حُكم علي بالبقاء على الأرض. نظرت إليه دون أن أنهض. وجدته عملاقاً ضاحكاً، جاهزاً ليُفشل محاولتي القادمة. من ورائه جاءت جوقة الضحك. لم يكن من الأولاد المحبوبيـن في صفه ولذا وقف منتشياً. حاولت  مجدداً، ولكنه أعادني إلى الأرض مرة أخرى. بدأت عيناي تغرورقان بالدموع ووجهي يحمرُّ غضباً. حاولت مرة أخرى، لا فائدة.

والآن، اليوم، ها هو. ظهر في الحي. يبدو من مظهره أنه موظف في شركة. ما زال بديناً. على الأغلب أنه تزوج فتاة اختارتها له أمه، وعمل في وظيفة وجدها له أبوه. بغض النظر، نحن هنا الآن، وأعتقد أن عندي وقت لتصفية حسابات.

دخل إلى البقالة مرة أخرى. وقفت متكئاً على سيارته. كلمة واحدة تصدر منه تطلق مني وحشاً ينقض عليه. نظرت داخل سيارته. كانت هناك صورة معلقة على المرآة، طفلة صغيرة مزهوة بفستان زهري وأزرق، تمسك يداها بأطرافه وتمتد ذراعاها ناشرة الفستان في نصف دائرة. نصف دائرة أخرى هي ابتسامتها العريضة. حذاء أبيض صغير ببكلة. وطوق بنفس اللون والبكلة. السيارة نظيفة من الداخل والخارج ولكن تعمها الفوضى. أوراق وملفات. يبدو أنه رجل مبيعات، أو تأميـن. يبدو أنه يقضي وقتاً كثيراً في السيارة. يبدو أن السيارة بحاجة لزيارة إلى الميكانيكي. خرج من البقالة، ما زال يتكلم في الهاتف. ما زال لا يذكرني، بل ولا يذكر أني أنا من ارتطم به قبل لحظات. حان الوقت، ها هو يسير نحو السيارة، نحوي.

"يعطيك العافية" مع ابتسامة خافتة. نظر باتجاهي ولكن ليس إلي. أعاد وجهه للهاتف، فتح الباب، وصعد في السيارة.

تمتمتُ إجابة حتى أنا لم أفهمها. وقفت وابتعدت عن السيارة. مرت لحظات وأنا واقف على الرصيف أراقبه. كان ينظر إلى الاتجاه الآخر ليرى السيارات القادمة. مرت سيارة وأصبح الطريق مفتوحاً. أدار المقود بيد واحدة وتأكد من الجهة الأخرى من الطريق، حيث كنت واقفاً. وضع هاتفه بيـن أذنه وكتفه، ورفع يده بالتحية. وجدت يدي ترتفع أيضاً.